يجب أن يُركز الهدف الحقيقي لتطبيق أي اختبار، سواء كان دوليّاً مثل (PISA)، أو مدرسيّاً محليّاً، على قراءة متأنية للنتائج، من أجل تحديد مَواطن القوة والتحديات في النظام التعليمي، وليس على ترتيب الدول، أو إصدار أحكام مطلقة على جودة التعليم. ويبقى السؤال الأهم: هل وظفت الأنظمة التعليمية نتائج الإخفاق المتكرر للطلاب في بعض المواد لتحليل الأسباب، وإعادة هيكلة المناهج؟ وهل قدمت دعماً إضافيّاً لتطوير أداء المعلمين بناءً على هذه النتائج؟ إذا كانت الاختبارات لا تؤدي إلى تحسين فعلي في بنية التعليم، فستتحول عبئاً يستهلك الوقت والجهد بلا عائد يُذكر.
في كتاب «PISA وسباق التقييمات: هل تحسِّن الاختبارات الدولية جودة التعليم؟»، يوضح المؤلفون كيف أن الدول التي نجحت في الاستفادة من اختبارات (PISA) هي تلك التي حوَّلت هذه النتائج مشروعاتٍ إصلاحية، عوضاً من السعي المحموم نحو ترتيب أعلى. وعلى سبيل المثال تعاملت فنلندا مع نتائج الاختبار بصفتها أداة لتحليل واقعها التعليمي، وسعت إلى تعزيز الرفاهية النفسية والمساواة بين الطلاب، بدل تحقيق مراكز متقدمة. وعلى النقيض اتبعت سنغافورة والصين استراتيجيات مكثفة لرفع ترتيبيهما في هذه الاختبارات، ما خلق ضغطاً كبيراً على الطلاب والمعلمين، وأدى إلى تراجع مساحة الإبداع. أمَّا الولايات المتحدة الأميركية، فقد استخدمت نتائج (PISA) لتحديد الفجوات بين الفئات الاجتماعية، وتوجيه سياسات تستهدف تحقيق المساواة، إلا أن تنوع الأنظمة بين الولايات أعاق تنفيذ إصلاحات متسقة وشاملة، في حين اختارت النرويج، في بعض الدورات، الابتعاد عن السباق، والتركيز على بناء مهارات التفكير النقدي والإبداع بعيداً عن ضوضاء ضغوط الترتيب، ما يبرز أهمية تحديد الأهداف التربوية بوضوح.
إن هذه التجارب الدولية المختلفة تُظهر بوضوح أن الاختبارات إذا لم تُستخدَم لتطوير بيئات تعليمية، ودعم اتخاذ القرار، فقد تصبح مجرد أداة إحصائية تفتقر إلى التأثير العملي. وتنظر الأنظمة التعليمية الناجحة إلى نتائج الاختبارات بصفتها أداة ثرية لتغذية السياسات التعليمية بالمعلومات، وإجراء تعديلات دقيقة في المناهج والبرامج والدعم، وتوجيه برامج تدريبية إلى المعلمين، وإثراء المصادر، وتفعيل أكبر للدور المجتمعي، وتصميم أنشطة تعليمية تدعم تنمية المهارات الحياتية لدى الطلاب.
ويجب أن يظل التفكير في «مقصد التعليم» حاضراً عند تسلُّم نتائج الاختبارات الدورية (الصفية، والمدرسية، والمحلية، والعالمية)، فالتعليم ليس مجرد أرقام وترتيبات ترصَد في الشهادات الدراسية، بل هو عملية مستمرة تهدف إلى إعداد أجيال تملك القدرة على التفكير المستقل، والتعلم المستدام، والإسهام الفاعل في بناء مستقبل أفضل. وإذا لم نستخدم نتائج هذه الاختبارات لتحسين تجربة التعليم، فستبقى مجرد أداة تنافسية فارغة، ذلك أن تلك النتائج فرصة لإعادة تقييم استراتيجيات الأنظمة التعليمية، وتحقيق الأهداف الحقيقية للتعليم: بناء نظام يعزز النمو المتكامل للطلاب، ويمكِّنهم من مواجهة التحديات بناءً على معلومات موثوق بها، وليس مجرد تحقيق ترتيب أعلى.
*مستشار مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية